السبت، 22 نوفمبر 2008

(( اللعب بالمقدرات البشرية





























يمكن للجيل التالي أن يعرف بوضوح أكثر مما نعرفه الآن بالكيفية التي يتم فيها تخريب العالم لأن الأبعاد الإنسانية بدأت تعبر عن نفسها شيئاً فشيئاً مع وضوح الرؤية في قراءة المتغيرات التاريخية والأسباب المؤدية إلى تنوع العقل البشري في وجود ارتباط تنوعي في بنائه العام .
فالشعور المتزايد وطاقة البحث والاستشفاف في استنتاج المعرفة المتوسعة لاكتشاف العوامل المؤدية للنزاع والتباين في تقدير المخاطر وأثرها على البنية الإنسانية العامة . عوامل متعددة يمكن أن تحدث انقلاباً في بنية الشعور العام في نظام التأكيد على التواصل الإنساني .
فالمتغيرات الجارية في هذا العالم وما يرافقها من أزمات كالحروب التوسعية والمنظمات القابلة للانفجار المتنوع والمشكلة لإحداث خلل في النطاق المحلي وعلى دفعات مترافقة بالضرورة مع الحاجة إلى تشكيل ذرائع غايتها إرباك المناطق المتنوعة والتآمر المتزامن مع الحكومات المحلية والأجهزة السرية العاملة على تنشيط الإرباك الدائم وخلق المشاكل لإعادة ترتيب الخرائط الجغرافية وإعادة ترتيب العقل بما يتوافق مع المخططات الجهنمية وإشراك تدخل الكلاب أحياناً في تشكيل المواقف المتعلقة بالمسائل الخطيرة والناشئة لتشكيل مواقف مترافقة مع النهج المتفق عليه في الدهاليز السرية وبيوت رأس المال القادرة على تحديد كمية الطعام الداخلة في فتحات الأفواه البشرية , بما يتفق مع تحديد الجمل المركبة والمصطلحات في نظام العقل المرتبط بها والمنفعل مع تحريك الأزمات على الأرض بما يؤدي إلى إدخال برامج هدامة تعيق البناء السليم للحياة الإنسانية.
واقع يخلق الشعور الملتهب في النفوس ويجعل القلق صفة مترافقة مع النمو البشري والخوف الدائم من أعداء الحياة وإمكانية خلق الحوافز لنشر الدمار في وجود العالم بكل ما وصل إليه من تطور وتقدم في المجالات العلمية كافةً.
لا يمكن إلغاء الروابط المترافقة مع النزاعات الإقليمية المتوترة باستمرار والمحافظة على إبقائها في حالة توتر واقع مصطنع ومكشوف عندما يبدأ العقل تشكيل أجوبة واضحة وضرورية حول المسائل المعقدة في العالم والمناطق التي يتم فيها الانحراف نحو الخطر الأكيد مع الوضوح في طبيعة هذا الخطر ومجراه وعمقه في التأثير على المقدرات البشرية , مع ارتفاع الأصوات الدالة على حقيقة المسببات المرتبطة بهذا النزاع وما يرافقه من خلل يؤثر على القائمين على حمايته وتوجيه منحاه العام , وعندما تتزعزع الثقة في إمكانية بقائه في خدمة مصالحهم يتم وضع برامج مغايرة لتأجيج هذا النزاع في اتجاهات مغايرة.
فالخطة النصفية لكل قرن تتطلب إجراءات عملية لتغيير لعبة التوازن وجر الحياة البشرية إلى متاهات تضليلية في اتجاهات أخرى فالبشرية تتساءل لماذا يتم خلق أساليب متغيرة في التعاطي مع الأحداث الجارية في مناطق مختلفة من العالم , ولماذا يريدون ترتيب الحياة بشكل متقلب ومتغير , والظهور بمظهر حماية السلم والأمن الدوليين .
لقد استغرق التركيز على بناء الدول القومية فترة لا يستهان بها منذ بداية القرن الماضي وتم انتقاء الشعارات والبرامج الدالة لقيام دول قومية مؤثرة في نطاق محيطها الجغرافي والتركيز على بنية موحدة للعقل في التعاطي مع البنية القومية والمسائل المرتبطة بها في الوقت نفسه كان هناك توجه لتفكيك الشعور القومي وإظهار محتوى العجز في بنيته العامة وعدم قدرته على المواكبة المستمرة مع تغير مستوى الأحداث المرتبطة بالواقع القومي ومنطق التطورات المنبثقة عن مهام وأولويات مختلفة ظهرت مع واقع جديد ينجرف مع مهام العولمة القادمة.
ما هو المغزى إذاً من ظهور عقول تنادي بالحرية والإنسانية للجميع ولماذا لا تترك هذه العقول الأفكار تعمل وفق المنطق الصحيح ؟
أعتقد سيتم وضع العراقيل أمامها لإظهارها بأنها فاشلة في قراءة نظام الحياة وطبيعة تشكيلها من جديد ولماذا التركيز بأن العالم غير قادر على الحياة وفق منهاج يتطلب إحياء الجميع.
لقد بدأت عقول الخفاء بالتخطيط والتلاعب منذ بداية هذا القرن لوضع المسائل الممكن اشغالنا بها مائة سنة أخرى حتى تأمن إمكانية اللعب بقدراتنا وطريقة تعاطينا مع الأحداث والمتغيرات الجارية والمصطنعة في تركيبة الوجود القادم .
بدأنا نعرف أن التركيز على مفاهيم ديمقراطية ضمن جماعات طائفية وعرقية في كيانات منعزلة يمكن إقامتها كواقع احترازي وحذر للتحكم بمقدراته بسهولة نظراً لضعف الموارد وطريقة التواجد المنعزل وغيرها من المسائل القادرة على إبقاء التنوع معرضاً للاضطرابات وعدم القدرة لصناعة حضارة تتطلب التواصل الجماعي والتوافق البشري للوصول إلى مهام مشتركة تؤمن وقف انتشار التخريب على هذا الكوكب بجميع مكوناته الحية والعاقلة.

الاثنين، 27 أكتوبر 2008

الديمقراطية بالمشاهدة

















الوعي القائم على النفعية في استغلال المفاهيم البشرية لتحقيق مصالح ومكاسب سلطوية ينخرط بالضرورة في مستوى المجابهة المباشرة مع منافسيه في المكاسب نفسها فتبقى الأزمات والمتغيرات جارية بنفس الإطار المنهجي لبرنامج تطبيق الوعي البشري ,فالصدام التاريخي يظل قائماً في هذا العالم حتى تتغير طريقة تعاملنا معه والأفكار التاريخية العملاقة والنظرية لغاية إحداث بنية مغايرة لطبيعة الوجود القائم في مجراه التاريخي , يُصاغ بطريقة مغايرة لمضمونه الحقيقي وإلا لما وصالت إليه النظريات إلى هذه الدرجة من الإهمال والتلاعب بمضمونها الفكري وكأن العقل البشري يرفض التعامل مع القضايا التي تنقذه من إرباكه التاريخي فيقوم على تغيير بنية المفاهيم بما يتوافق مع المسير التصادمي في الحياة الإنسانية .
فالديمقراطية كمفهوم عقلي ونهج عملي للوصول إلى مستوى راقي في العلاقات بين البشر والدول , استغلها العقل البشري بما يخالف مضامينها الجوهرية , فالدلائل المتوفرة عن الممارسات الديمقراطية وطبيعة تمثلها في بنية العالم تتخذ مسارات درامية في غاية التنوع وقد تكون مسلية لمن يهوى المشاهد المسرحية .
فالنظام العالمي الجديد وما يحتويه من بنى اجتماعية وأنظمة فكرية وسياسية متنوعة يمكن أن توضحها المشاهد الديمقراطية في الطبيعة الجغرافية للدول .
فالديمقراطية في البنية العالمية تظهر للوجود بالتعددية المتنوعة للأنظمة المختلفة والمتعايشة في بنية دولية واحدة ممثلة في الهيئة العالمية للأمم المتحدة كتمثيل جامع لأنظمة متنوعة الوجود والأسلوب في طريقة الحكم وقيادة السلطة السياسية .
فالبناء الديمقراطي العالمي يحتوي خليط غير متجانس من الأنظمة تعبر عن نفسها بحرية الوجود الديمقراطي في التعامل مع الطبيعة السياسية الداخلية لنظامها الخاص ,فنشاهد الحكم الديني الملكي وحكم الإمارة الملكي المرتبط بالدين وحكم السلطنة الديني والحكم الجمهوري الديني والحكم القومي بسياسة القائد الفرد والحزب الجمهوري بسياسة الحزب الواحد والحكم الجمهوري بسياسة تبادل الحزبين وحكم ملكي بسياسة حزبين , حكومات وسياسات متنوعة مختلفة التباين في النظام العالمي على المساحة الكاملة للجغرافية البشرية يمكن أن نعبر عنها بالديمقراطية العالمية في طريقة التعاطي مع الطبيعة السياسية للدول مفرزات وإفرازات سياسية متنوعة متواجدة بحكم الديمقراطية وهل يعني أن هذه هي الديمقراطية أم المفاهيم الديمقراطية متنوعة التنفيذ والحرية في بناء الأنظمة المختلفة وهل يمثل التعاطي مع الحرية كنهج للقيادة السياسية على المسرح العالمي أم الفصل بينهما ضرورة حتمية .
فالانتقال التنازلي يعطينا نتائج أكثر إثارة في معرفة الحياة الديمقراطية من خلال البنية الداخلية للدول
في بنية الدول الداخلية فالنظام التمثيلي مختلف على المستوى الديمقراطي بين نظام وأخر والعرض لا يخلو من الإثارة فالأحزاب المتباينة تطرح برامج مختلفة وتتسابق للحصول على المكانة في قيادة السلطة كنظام تمثيلي يعبر عن اختيارها بالاقتراع المباشر لتنفيذ برامج سياسية ويمكن أن تتعدد الأساليب في تنفيذ هذا الواقع السياسي وكل دولة تسلك طريقاً مغايراً في تركيبتها البنيوية وممارستها للديمقراطية ويمكن تحديد المفاهيم في هذا المجال بالطريقة الديمقراطية لوصول الأحزاب إلى السيادة السياسية ويمكن أن تكون هذه الأحزاب دينية أو عرقية أو قومية وغيرها تعبر عن واقع مقيت في الحياة الاجتماعية والإنسانية ويمكن أن نشاهد أحزاب اشتراكية وعلمانية ونازية وغيرها تستخدم الديمقراطية للوصول إلى برامج هدامة معيقة لبرنامج التفاعل الإنساني ويمكن أن نشاهد توزيع المناصب السياسية والحكومية من قبل الحكام والهيئة الحاكمة معتبرين توزيعها بشكل ديمقراطي ويمكن إزالة سياسيين وأصحاب مناصب وأحزاب وقوميات وطوائف وغيرها معتبرين بأن الإزالة تمت بشكل ديمقراطي ويمكن أن تقام الحروب وتزهق الأرواح وتدمر المدن والشعوب على أساس الحروب الديمقراطية ويمكن أن يفجروا العقل بشكل ديمقراطي ويمكن أن تنهب الثروات وتقمع الشعوب على أساس ديمقراطي إنه مشهد قائم في الوجود الإنساني يتم استغلال محتواه الديمقراطي لتشكيل واقع متأزم همجي البنية والسلوك بلائحة ديمقراطية تنشر الرعب والدمار في جسد الإنسانية الهزيل ويمكن أن نشاهد برامج متغيرة في بنية الديمقراطية لدرجة اعتبار الديمقراطية غير موجودة في الديمقراطي نفسها , أدبيات وأفكار وتحليلات قائمة على الديمقراطية والحصيلة النهائية لا تغيير في المعادلة الإنسانية عندما يقيم الإنسان من انتمائه وقوميته ودينه وعرقه وغيرها من الأساليب المذلة للكرامة الإنسانية .
فلا ديمقراطية في الدين ولا دين في الديمقراطية أساليب متنوعة في الوجود وتعيش على هامش الوجود , مخزون عقلي سلفي يراد نشره ديمقراطياً ,مظاهر عقلية متطورة وبناءة يتم إقصاءها ديمقراطياً خوفاً على مصالح أسياد العالم , بنى متقهقرة ورجعية ترشق الحياة بالتهم تكبت الأنفاس وتلغي العقل بأوامر من مصدر مجهول باسم الديمقراطية عالم يتخبط بالشر والإنسان هو المتهم الوحيد في تشكيل الدمار .
عندما يعيش الحكام خارج الحساب والقوة خارج العقل والجهل في تركيبة الحياة ستبقى الديمقراطية مجرد أقوال وفن التلاعب بالألفاظ لأن الرفاه والحرية وحدهما القادران على إزالة التجاعيد من الوجه الإنساني المعبر عن طبيعة التوافق بين الشعوب .

الأحد، 26 أكتوبر 2008

وهم الديمقراطية الأليكترونية








على الرغم من توصل العالم إلى مفارقات وإنجازات هائلة في التعامل مع العقل البشري والكشف عن مكوناته الجنينية وأساليب تفاعلة مع ذاتة وغيرة لم يزل ينقصنا الكثير من الجرأة والبحث في خضم الخفايا وظواهر الغوص في ألذات الإنسانية علينا امتلاك القدرة على التعبير بوضوح تام عن كل ما يجول في الخواطر الإنسانية ووضعها في المتناول المعرفي لجميع البشر علينا البحث في السبل الكفيلة بخلق الوضوح بدون عقاب فالكتمان آفة الإنسانية عبر تاريخها الطويل ومن خلال الكتمان يتم تدمير الإنسانية في عمقها الواعي والعالم في وجودة الموضوعي كل إنسان في هذا الكوكب قادر على الاستغراق في ذاتة يدرك أنة يحمل منظومة سرية من الإحساسات والتصورات والمعتقدات الضمنية يكبتها ويعزلها وينشط السلوك للوصول إلى ماهيتها بعيدا عن رقابة الأخر ولو كان الأخر يظهرها على دائرة الضوء والوضوح هذا الأسلوب في التخفي يظهر الإنسان شكلاً ويعزله مضموناً , ويسعى لتحقيق غايته من خلال التراث وجميع الأفكار المعلقة في ذاته كإرشادات يري من خلالها أسلوب الخلاص المزيف , لا يوجد شيء يهدد القوة غير الإحتمال فهما حميمان في التفاعل من البداية وحتى النهاية , فقد علم إبليس قوة الله وقدرته الهائلة في التصرف ولسيطرة والخلق والتحكم والتحريك فهو قوة ما فوقها قوة وقدرة تفوق كلّ اقتدار فلو يكن أمام إبليس غير الاحتيال لاخترق قوانين الله فدخل فيها من أماكن ضعفها وحدث ما حدث . وكل الإنسانية تواجه اليوم لعنات إبليس وتسعى للتخلص من مظاهر احتياله البدائي الأول . فالعمل مستمر لتفكيك الطاقة الإنسانية الكاملة في داخلها وإدخالها موسوعة الأرقام القياسية وكأن الحياة مجرد أرقام نتفاعل معها لنعطيها من وجودنا ما يجعلها تتحرك بكل الاتجاهات , إبداءً من أن التفاعل الإنساني وجود رقمي وكل ما يتفاعل مع هذا الوجود من علاقات وأفكار وأحاسيس واندفاع وإبداع يندرج في واقع إحصائي رقمي يعبر عنه صانعوا القرار في العالم . فالحضارة العالمية الجديدة مبنية على الوجود الرقمي والصناعات الرقمية واختراق متاهات الكون الواسع والتعرف عليه هو من فاعلية الاستخدام الرقمي والتشكيل القادر على تحقيق مظاهر الصناعة الفائقة الدقة في التصميم .
فالحصيلة المعرفية للبشرية هي التفاعل مع كمية هائلة من المعلومات والبيانات يمكن أن تصل إلى كافة الشعوب . وتبقى رهينة العمل في هذه البيانات ومعالجتها وبالتالي ينشأ التقاعس المستمر للتفاعل مع وجود إنساني عليه الاتفاق على قواعد وأساليب محددة للعلاقات . ليبقى العلم مستمرا في تعميق البعد الإنساني وتكوين الذاكرة الإنسانية بديلا عن الذواكر المتهرئة منذ أصبح إبليس جزءا من كيانها الخاص يتفاعل معها ومع معطياتها .
فالتقدم التكنولوجي المعاصر متواصل الحلقات باعتماده على الأقمار الصناعية في الإرسال التلفزيوني وشبكات الاتصال الأخرى وتفاعل المعلومات الكونية للتخفيف من حدة الشكوك والشعور بالعداوة تجاه الغير وكسر الطوق الحديدي لاحتكار الصحافة لتوجيه الخبر من خلال توفير قنوات متاحة بكثرة لجميع الآراء والأذواق المتعددة في المجتمع والعمل لتأسيس نظام صحفي تحرري يمكن أن يترافق مع ظهور الإعلام المنزلي ويعزز المشاركة الشعبية الكاملة في عمليات صنع القرار الحكومي .
فالسياسة التكنولوجية المعاصرة تسعى لإشاعة المفهوم القائل بأنها تتطور خارج مفاهيم التاريخ وهذا ما يجعل الفكر التاريخي بالنسبة إليها شيئا مغايرا في تطوره . فيتقلص التفكير بخلق مستقبل مشرق للوجود الإنساني وينحصر التفكير التكنولوجي بالكفية المتاحة لتوصيل تكنولوجيا المعلومات إلى القواعد التحتية في المجتمع . و توجيه إرسال مركز وبث كمي هائل من المعلومات المتباينة يستحيل من خلالها القضاء على الأمراض الاجتماعية وان الغاية من استغلال هذه المعلومات لأغراض تجارية ومصالح اقتصادية غير ميالة لإقحام نفسها في تحقيق المعادلة الإنسانية كقيمة أغلى من كل ما تسعى لترويجه . فالمصالح الإنسانية والتوافق الإنساني يظل دائما هو الاعتبار الأخير . فالمصالح العسكرية والتجارية تسيطر على تكنولوجيا الإعلام والمعلومات وتغذي التفاعل الدعائي كجانب مستقل في غايته كفعل محرك لنشاط السوق العالمية . ومهما توسعت الأنظمة المتعددة القنوات لن تنحصر في الدفاع عن المصالح العامة والحاجات التعليمية والثقافية للشعوب .
وتظل تسعى لإثارة الخرس الاجتماعي من خلال إخفاء الحقائق وإضاعتها بين الكم الهائل من المعلومات فالشركات العملاقة والعابرة للقارات تحتكر جميع المعلومات الخاصة بضمان خصائصها الذاتية وكمية الإمكانيات النقدية الوردة إليها من خلال تسويق الأعمال والإنتاج وتندرج طبيعتها الاقتصادية كقوة هائلة غير واضحة المضمون يختفي من خلالها أسماء المساهمين الأساسيين في بنيتها الملية وهذا ما يجعل الشعوب مغيبة عن معرفة قادتها الحقيقيين لان التداخل بين ماهو وطني وما هو عالمي مبني في أساسة على مصلحة المساهمين في الأسواق المالية فالاتجاه المعتمد والمقصود للسرية داخل الحكومات يعزز ويدعم سرية الشركات ويمكن أن تتوصل هذه الشركات إلى نتائج باهرة من حيث القيمة فهي تساوي بين سعر البطيخة وسعر أي كوكب سماوي ومهما كثرت وتعددت خطوط وغزارة الإنتاج في شركاتها وقدرتها على ضخ كم هائل من السلع في الأسواق لرفع دخلها يمكن أن تقارن ربحها مع ربح دكان لبيع المواد الغذائية وهذا ما يؤدي إلى تزويد إلى تزويد جميع الحقائق الاقتصادية في العالم ويجعل أصحاب رؤوس الأموال في حالة عوز دائم للمال ويمكن تصويرهم بأنهم متسولون أمام البنوك.
فالسرية المتبعة في العمل التجاري تخفي في مضمونها كل المعلومات عن سياسة الإرباح ويلتزم جميع السياسيين والإداريين بالأدب في علاقاتهم مع أصحاب الشركات لان العلاقة القائمة بين الفريقين هي علاقة التوافق بين احتكار السلطة واحتكار الاقتصاد ولان التزاوج بين السلطتين يضمن سلامة قواعد اللعبة كما يؤدي إلى اندماجيهما مع المكونات التكنولوجية والإعلامية الجديدة وإظهار تطابقهما مع المصالح القومية والاجتماعية للدول , ويمكن أن يتم توزيع السلطة بينهما وفق تخطيط معالج في برامج الكمبيوتر, بحيث يمكن صوغ القرارات والقوانين وإخراجها من خلال البرامج الخاصة بالكمبيوترات العملاقة , أما الشركات المختصة بصناعة وتجميع الكمبيوترات وبرامجها فتحرص دائماً على تحديد العناصر المكونة لنوعية البيانات التي يمكن استيعابها وتشغيلها من خلال الأجهزة المذكورة , ولا يمكن لصناع المعدات الاليكترونية العملاقة أن يجعلوها تقوم بتصميم وتخطيط منظومة من المعلومات تشكل تحدياً لسيطرتها , فتكنولوجيا المعلومات مهما بلغت من الاقتحام في جميع المجالات الحيوية للأعمال الإنسانية لا يمكن أن تحل المشكلات الاجتماعية وأمراض العصر الراهن بل غالباً ما تضيف مشاكل جديدة لهذا العصر.
وبمقدار القدرة على توليد وإنشاء المعلومات على نطاق واسع تتولد أساليب جديدة ودقيقة للسيطرة عليها وهذا يعني أن الديمقراطية الالكترونية مجرد وهم فالحرية التي تخضع للمراقبة هي في الحقيقة ليست حرية , فالكمية الهائلة من المعلومات غير القابلة للتحديد لايمكن أن يستوعبها لضخامتها وبالتالي يجري غربلتها بناءاً على خبرة مهندسين مختصين بحيث يتم بث مجموعة من المعلومات ذات أهمية حيوية ضمن كم هائل من المعلومات السطحية يصعب انتفاء ما هو مفيد منها ويجعل المتتبعين للمعرفة في حالة ضياع ,فالطاقة المستقبلية الناتجة عن التراكم المعرفي والتكنولوجي تحتاج إلى عقل فاعل قادر على التفاعل معها ولا يمكن الاعتماد على عقلية حفظية تريد أن تطبق ما قاله الرسل على منظومة المعلومات الرقمية وشبكات الانترنت إذ لابد من الفصل التام بين المفهوم الأخلاقي للإنسان وبين نظام البرمجيات لأنها بعيدة عن العاطفة وتتوخى الدقة التامة بغض النظر عن أي اعتبار لوجود إبليس .

عطاء الفكر التفاعلي














إن عملية دراسة وانتقاء الفكر التاريخي النوعي الناشئ من خلال تعاقب النشاط الإنساني ، والمنعكس بشكل فكري على هذا النشاط ، تمثّل عبر التاريخ بنوعين من الإنتاج الفكري، أحدهما هو الإنتاج الروحي الموجه لتقويم البناء الداخلي للإنسان بجميع قيمه ومعلوماته المكرسة والمنبثقة من الأديان السماوية ، الموجهة لإعطاء الإنسان مجموعة من القيم والقيود والإرشادات النوعية التي تقود الإنسان نحو الكمال المطلق ، ليس في واقع الحياة فحسب، وإنما في واقع الموت أيضاً،أدخلت مفاهيمها وتعاليمها إلى أذهان الناس ومواقفهم وأعمالهم ، عبر التوجيه المركّز للعقاب والحساب والتشجيع والمكافأة ، ونحو البعد المستقبلي للحياة مما أدى إلى انقسام الناس إلى تيارين متعارضين .
التيار الأول: أخذ هذه المفاهيم والقيم من أجل الوصول إلى مآرب ذاتية خاصة ، فقلب المقاصد والقيم المكرسة في الأديان وأعطاها بعداً شكلياً أستطاع أن يتظاهر به مع المجتمع ، مظهراً أن ذلك هو المقصود والمفروض، وهو التمثّل لهذه القيم متجاهلاً وبقناعاته الداخلية جميع عمليات الترغيب والترهيب التي وعدت بها الأديان معتنقيها ، مما أعطى المفاهيم شكلاً هامشياً ، لا يهمهم من الأشياء إلا صورها ، ومن الفكر غير أداة لتكريس الفوقية والعدوانية ، وكيفية إخضاع الناس ، مما خلق وضعاً مريضاً ميالاً لتطبيق مفاهيم الخبث وأساليب التلاعب على الآخرين وإشراكهم في عملية التلاعب هذه ، فظهر الإنسان بمظهر المتآمر على جميع القيم الفكرية والروحية والخروج بتجارب تاريخية أعطت اللاحقين أبشع صور الحقد على هذا النوع من السلوك بجميع قيمه.
التيار الثاني: أخذ من الإنتاج الروحي لهذه الأديان جوهره وإشراقاته الحقيقية، لكنه بالمقابل كان مهزوماً في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فتركزت هذه المعلومات عنده كنوع من القناعة الداخلية ، وأداة لتطهير النفس الفردية من الداخل ، مما غيّب عمليات ممارسة هذه القيم الجوهرية في الواقع الحياتي ، وظلت قناعات روحية داخلية في النفس الإنسانية ، مما جعلها تفقد مصداقيتها عبر التاريخ ، وتطورت لتأخذ شكلاً صوفياً متعصباً، مما أدّى إلى تشويه معالمها الحقيقية ووضعها في صورة الانعزال والتحجر، ففقدت مصداقيتها وأهملت ولم يبق منها إلا شكلانية بسيطة لا تنطوي على أي تأثير اجتماعي فعّال. أما الحقيقة النوعية لكيفية استشراق الفكر الروحي ، تتمثل بسحب جميع قيمه الفعّالة منه وإعطائها البعد الحقيقي النوعي في الحياة ، وتمثلها في الحقيقة الفاعلة للحياة الاجتماعية ، وإعطائها الصفة الحقوقية في التعامل الاجتماعي ، مع إضافة الفكر النوعي النموذجي للواقع إلى الفكر الروحي ليتم التفاعل مع الواقع المعاصر ، مع إسقاط كافة المفاهيم المدونة في الفكر الديني المرتكزة على عملية التصوير الإبداعي للحساب والعقاب ، وجميع طرائق الترغيب في الحياة وما بعد الحياة ، كي تصبح المفاهيم الدينية ذات مدلولية عملية ، ليس في واقع التعذيب والسعادة الدائمة فحسب، وإنما في واقع الحياة المعاصرة والنامية وفق صيرورة اجتماعية متطورة تسعى عبر مسيرها العام للوصول إلى النضج الحياتي والأخلاقي بشكل متكامل على كافة الأصعدة الإنسانية .
كما أن إسقاط كافة الأفكار من الأديان السماوية القائمة على الطرائق التصويرية والوصفية تؤدي إلى زيادة فعالية الفكر الديني ، وتعطيه واقعاً تنموياَ في جميع الأفكار الباقية، ذات الفكر النوعي الحياتي والأفكار الحقوقية ذات البعد التكافئي العام.
أي اكتساب نمطية نابعة من عطاءات الفكر الديني ذات بعد عقلاني في الفكر ، وعقلاني في الحياة الاجتماعية والإنسانية ، وذلك بعد الانفكاك الداخلي من أية تبعية وارتهان لجميع القوى المحركة للأديان ، وبالتالي إعطاء الإنسان الحق الأمثل في كيفية استخدام الفكر وترشيده في ما يحقق تطوره النوعي على جميع الأسس التاريخية الباقية النابعة من أمال تشكل قفزات نوعية إنسانية وبالتالي تطوير جميع الملكات الإنسانية،فيما يحقق قفزات نوعية أشمل وأعمق قادرة للوصول إلى صيغة حياتية نوعية واحدة وشاملة لجميع أبناء البشرية ، تؤدي لإخراجهم من دائرة الصيغ التناحرية ذات التأسيس المنحرف والمدمر لقسم كبير من سكان الأرض، بدون أي حق، ولا ذنب سوى كونهم بشراً لم يقدروا على تنفيذ أطماع غيرهم، وعدم مقدرتهم تأمين الاستمتاع الأعظم لأهواء الانحراف الإنساني . يؤثر الفكر المادي التاريخي على جميع العمليات الفكرية والحياتية القائمة في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، باعتماده القائم على دراسة الصيغة التناحرية القائمة بين فئات وطبقات متصارعة تتناوب من خلال الصراع المستمر إلى انتصار أو التغير من طبقة إلى أخرى أو تظهر طبقة جديدة قائدة وقائمة في المجتمع حسب الظروف المواتية والمؤهلة لإعطاء الأقوى فرصة الاستمرار ، والبقاء على رأس القيادة فترة من الزمن.
ومبدأ الحتمية التاريخية القائلة بإمكانية الانتصار الدائم للقوى الصاعدة في المجتمع المتشكل والمتعاقب بشكل مستمر. ومن الدراسة المستفيضة للواقع الاقتصادي القائم بفعل قانون اقتصادي موضوعي ، يأخذ مجراه في الواقع السياسي خارج إرادة الناس وأهوائهم ، وكيفية تحول رؤوس الأموال وفق العملية الإنتاجية للمجتمع ، وتكدسها بأيدي أقلية قليلة من جرّاء استغلال قوة العمل الزائدة وتحقيق الربح على أوسع نطاق، وبالتالي تغذية الحقد الطبقي القائم على زيادة وتطور الوعي الاجتماعي وإفهام الشعب بأن واقع السلب ودوران الأموال وتكدسها ، ستصبح أداة ضغط وقهر اجتماعي وسياسي ، بل وتتعدى ذلك إلى واقع نفسية الإنسان وفكره، مما يزيده قهراً وحداً على مستغليه، كما أن عملية التحول الاجتماعي القائم على تغيير كافة الأطر الاجتماعية والمؤسسات القائمة في المجتمع القديم ، وبرمجة الناس في صيغة تنموية معينة ، تؤدي إلى نقل المجتمع من صيغة اجتماعية إلى صيغة اجتماعي أخرى ، عبر صيغ مدروسة ومبرمجة تؤدي إلى تركيز اجتماعية المجتمع ورسم معالمه المستقبلية ، وصيانته والمحافظة عليه وبالتالي تحقيق نمطية اجتماعية ذات بعد إنتاجي يؤدي في نهاية المطاف إلى وفرة في الخيرات المادية . وبالتالي تحقيق العادة المعيشة ، ولاشك في أن عملية اكتشاف وبرمجة الفكر المادي وإعطائه الصفة المنهجية ، هي وليدة تطورات هائلة في تاريخ البشرية ، ونعتبر ذلك قفزة نوعية قامت بها الإنسانية من أجل صيانة ذاتها واستمرارية هذه الذات تاريخياً وتخليص الإنسان الكثير من المشاكل والمشاغل الحياتية ، كانت تقف حاجزاً أمام التوعية الاجتماعية والاقتصادية ، وبالتالي شكلت حافزاً للعمل الدؤوب في وسط جماهيري هادف إلى تغيير النمطية التشكيلية للبناء الاجتماعي، بجميع سماته الفكرية والنفسية والمعيشية ، وتصعيد المواجهة الكبيرة للتخلف وقصر النظر القائمة والمعيقة لتحقيق ثورة في البناء الإنساني العام .
ولكن لماذا لم يستطع الفكر المادي تعميق وجوده ليصبح قضية شاملة بلا حدود ؟؟ ! ..
إن ذلك يعود لتناول الإنسان لا بتغييره الشامل فحسب، وإنما بتوجيه التفكير وفق منظور سياسي اقتصادي إيديولوجي ، يؤدي بالضرورة إلى خلق الصراع بجميع مستوياته، وتصعيد هذا الصراع على الدوام ليصبح قضية في غاية المواجهة الحقيقية بين التيارات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، وبالتالي تصعيد واقع المواجهة وفتح إمكانية ظهور مواجهة مضادة، تؤدي إلى تعزيز الفكر المناقض وإعطائه فرصة أكبر لصيانة ذاته وتعزيز هذه الصيانة بشكل دائم والتمسك الأعظم بهذا الفكر . كما أن التركيز على التغيير وللإبادة الشاملة للفكر المجتمعي القديم ، القائم على إنتاج الإنسان التاريخي نفسه يجعل واقع الصراع حاداً، وتصبح مسألة مصير الفكر قضية ذات بعد مستقبلي فتعمق المواجهة، ويصبح التمسك بمنهجية الأفكار واقعاً تعصبياً ، مما يجعل إمكانية نقل كل طرف من مواقعه أمراً مستحيلاً ، ويصبح هذا الصراع حاجزاً أمام نمو الملكات الإبداعية للعقل البشري ويقف الإنسان خائفاً وحائراً على الدوام.
فإذا كان الفكر هو أداة التشغيل والتحريك للإنسان، وهو القوة الموجهة لأداء الأعمال المنوطة بالإنسان، وهو الأداة الأساسية لانتقاء الأعمال والموازنة الدقيقة بين قينها وفوائدها والحاجة إليها ،كما أنه المنظم الدقيق للعلاقات العملية والاجتماعية في إطارها العام ضمن الوسط المعاش . بالإضافة إلى أن الفكر هو الموجه الأمثل للشخصية ، طبقاً لما يحتويه من معرفة ناشئة عن عطائه الدائم عبر التاريخ تجعله أداة للتهذيب والتقويم الأمثل للشخصية . وبمقدار إنسانية الفكر تتعمق المعرفة وتتخذ شك العطاء الدائم في واقع العمل الإنساني وعظيم قيمته الاجتماعية، وعندما يكون مجال العمل هو الإنسان بجميع قيمه الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ، يصبح عندها الفكر مسؤولاً عظيماً ويتخذ بعداً مطلقاً وعطاءً متجدداً ، وتتخذ الشخصية بعدها اللامحدود في واقعها الحياتي.
ولكي يتسم الفكر الشخصي بالإنسانية ، عليه أن يتخذ مواد عمله من الواقع على الصعيدين العملي والنظري ، المادي والمثالي ، كما أن أخذ مواد الفكر من التراث الإنساني بكل جوانبه ، والتركيز على الإشراقات النوعية لعطاءات الفكر الإنساني ، هو ما يجعل قيم الحياة أمتن وأقوم ، كما أنه يؤدي إلى تحصين العلاقات الاجتماعية ، ويعطيها البعد التوافقي والتطابق الموضوعين بما يجعلها علاقات إنسانية في صيغة كمالية رائعة ، شريطة إهمال وتجاوز أي فكرة تعصبية تعيق انسجام الإنسان مع ذاته وتقاربه مع الآخرين، فالاتفاق الجماعي الأمثل على سحب الفكر والعطاء الإنساني القائم والمنسجم مع الروح الحضارية المتنامية والمبدعة تجعل الإنسان كائناً قائماً ومتواصلاً وعطاءً متجدداً بعيداً عن أي تشويه أو تزوير، وبعيداً عن أي عمل يعيق التفاعل والتعامل الاجتماعي ضمن دائرة الحياة الإنسانية العامة، وعندها يصبح الإنسان هو الأداء الأمثل والأجدر لإعطاء العلاقات والقيم الروحية انفتاحاً وعقلانية.
إن ما يجعل الإنسان حائراً هو اللاحريّة في الأخذ واللاحريّة في العطاء، وهذا يخلق واقعاً توافقياً رتيباً في شكله منحرف في مضمونه، يؤدي إلى تعطيل ظاهرة الوضوح والإبداع. فعملية تمثل الفكر التاريخي والأخذ به غالباً ما يكون على شكل تبعية وارتهان ومسايرة أو تسليم، مما يجعل الفكر المأخوذ جامداً لا حياة فيه، وكأنه فكر مفروض بتعصب يؤدي إلى تبعية ذاتية ونفسية تشوه عملية الانتماء، وتحرف الفكر عن موضوعه الصحيح، وغالباً ما كان يستخدم الرعب النفسي والضغط المعنوي وكافة أنواع التخويف والقهر والعقاب، لترويج الأفكار، وإعطائها بعداً اجتماعياً بقصد تجميع الناس في كيان اجتماعي موحد،لكنّ النتيجة كانت عكسية على الدوام، فبدل أن يتوحد الناس تفرقوا إلى زمر وشيع ومذاهب وأحزاب، وكثرت عمليات التأويل والتفسير لتتخذ أبعاداً درامية في غاية التعقيد وأصبح الإنسان مهدداً في اعتقاده، واتخذت عمليات الإخضاع بعداً جسدياً مدمراً، وأصبح الأقوى هو القادر دائماً على نشر وفرض أفكاره ومفاهيمه الحياتية على الآخرين، أدى بالمقابل إلى نشوء أفكار داخلية مغلقة كتعبير رفضي مطلق عن هذه التعاسات الإنسانية وقيمها الفكرية المفروضة بالقوة.

حسين عجمية
Ansaroz56@hotmail.com

الجمعة، 24 أكتوبر 2008

(_نظرية العولمة والاندماج الحضاري _)












نظرية العولمة الكونية متعمقة في الوجود الإنساني وفق مقتضيات تاريخية تفرض نفسها على البنى الاجتماعية الناهضة في التاريخ الكوني ، لأن العمق البليغ للدلالة الحيوية على الفاعلية الإنسانية ، تعبر عن نفسها في سياق تاريخي عميق التكوين ، فالحضارات الكونية كانت تمتلك حركة النزوع نحو الكونية وإقامة نوع من العلاقات التوافقية المنسجمة مع تطلعات هذه الحضارات ، ونظراً لأهمية الغاية الاقتصادية في بنية الوجود الحضاري كان الفعل التوسعي يقوم على دمج المعطيات الاقتصادية لتعميق البنية القائمة وتقوية الوجود الحضاري ولم يكن الوجود الاقتصادي هو الغاية الكبرى لتعميق العبور بقدر ما كان للفكر الإبداعي قوة العبور خارج النطاق الحضاري وبالتالي توفر الظروف المناسبة للامتداد الحضاري عبر التاريخ .
غير أن الانتقال إلى عصر التفاعل والتواصل الكوني وتنامي المقدرة الإجمالية لعمليات الربط الإنسانية على كامل المساحة الأرضية ، غيّر من طبيعة الإدراك الحضاري في عالم متنوع الحضارات تتفاعل في إطار كوني ضمن خصوصياتها وضروراتها المعبرة عن وجودها كي تعمق هذا الوجود ليصبح أكثر غناً وثراءً لمعطياته العقلية .
لا بد من توفر الاستقلالية القادرة على تحقيق الوعي الحضاري النوعي ضمن الوجود الكوني ، فالوعي العميق لنظرية العولمة في المجال الكوني يدخل ضمن مجرى التحرر من الضغوط والإملاءات المعيقة لفهم النظرية الواضح . فالوعي البشري يرتفع ويتحرر من القيود الشكلية والاقتصادية ليكون أكثر التزاماً بوعي المصير الكوني ، فالوعي القائم في الوقت الحاضر مدرك لأبعاد وعيه نظراً للأخطار الجسيمة المحيطة بالوجود الكوني والناشئة من تنظيرات غير عقلانية يمكن أن تؤدي إلى كوارث محدقة بالجنس البشري .
إن فهم العولمة بأنها تحويل العالم إلى مكان واحد وبالتالي فإنها تقيد الحضارات أو تضغطها في نمطية واحدة ، وتلغي في سياقها كافة الأفكار المتفرقة والصادرة عن فئات بشرية متنوعة ومختلفة في إرثها الثقافي ونمطية وعيها التاريخي كي تكون العولمة منطبقة على مسمياتها الكونية كالقرية الكونية المتميزة في إسهاماتها النوعية الفريدة في جميع الميادين الثقافية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها ، بمعنى ضغط العالم عقلياً في منظور محدد ليخدم وجود محدد أمر مخالف للتوجهات الكونية في المعرفة ومعادي في أساسه للثقافة الإنسانية والحضارات الإنسانية .
فالخصوصيات الثقافية لكل الجماعات البشرية وجميع البنى الفكرية للحضارات التاريخية في إطار العولمة تأخذ مجالها الموسع وتوسع الخصوصيات الثقافية والمفاهيمية وتوحدها في مجرى كوني وبالتالي فإن العولمة هي الكل المتكامل للثقافات البشرية وتعميم بنيتها على كامل الوجود الإنساني وبالتالي يأخذ الوعي مجالاً انفتاحياً على جميع الأفكار والثقافات المنتشرة في وجوده ويعبر عن محتواها بحرية ، وتدخل ضمن نظام البنية العامة للوجود الكوني وتصبح منطلقات أساسية نحو وجود أعمق وأكثر اتساع وبالتالي فإن العولمة تبتعد عن المفهوم القائل بأن العولمة هي تخصيص الكونية .
فالانشغال المتزايد بالقيمة العالمية للوجود الكوني في نظام العولمة يتوافق مع إظهار الجوانب الفكرية والمبادئ الثقافية والدلالية في بنية الحضارات المختلفة والأساسية حول مفاهيمها وثوابتها الكونية فكل حضارة متعمقة في الوجود الإنساني ، تحمل في طياتها مفاهيم كونية على غاية من الأهمية لأن بناءها الجوهري مبني على أساس كوني ، ومن خلال تعميق المفاهيم الكونية في الثقافات والحضارات الإنسانية تتعمق البنية الأساسية لمفاهيم العولمة في إطارها الكوني وجميع المناهضين للمفاهيم الكونية ، ينطلقون من مفاهيم متزمتة وعنصرية وهي في طبيعتها أكثر انغلاقية على الذات ، أو مفاهيم متحجرة من أصول عرقية أو ناتجة عن الخوف من طغيان شديد وكاسح لشركات عملاقة وسياسات اقتصادية ، غايتها ابتلاع ثروة الوجود وتركيزها بأيدي أقلية طاغية تستطيع من خلال ذالك السيطرة على المجريات الكونية بما يتفق مع مصالحها الأنانية .
غير أن المقاربة بين الحضارات الإنسانية من خلال النظر المحدد حول مفاهيمها عن البنية الكونية والتفاعل العالمي يوسع الأبعاد الحقيقية لفكرة العولمة ويعطيها فاعلية متوافقة مع الوعي الحضاري والكوني لوجود الإنسان القادم .
فالعولمة نظرية منفتحة على الوجود الكوني من خلال تركيزها الأساسي على مبادئ وفاقية بين البشر ، والاعتماد على كامل المظاهر الثقافية لنظام العالم ، والدراسة المنهجية للمسارات الحضارية والاجتماعية الداخلية وهي تتشكل ضمن واقع يتوجه بفاعلية نحو الكينونة العالمية والمشاركة الوجدانية لجميع الحضارات والمجتمعات في بناء الظرف الإنساني الكوني .
فالتوجهات المتزايدة للمؤسسات الدولية لوضع نظام محدد وموحد لحقوق الإنسان في العالم أجمع ، يمكن أن يوضح الرؤية القائمة حول التوجهات المستقبلية نحو تفعيل الوجود الإنساني بعد تأمين حقوق الإنسان الأساسية ، وتتعمق المطالب نحو الوصول إلى أفضل مصالح للبنية الإنسانية بكاملها .
فالحياة الإنسانية تواجه اليوم ثلاث ظواهر كبرى تهدد البناء الإنساني هي ( الكارثة البيئية والتدمير النووي والإيدز ) وكل واحدة منها هي مشكلة ملحة على النطاق الكوني .
فالحقيقة الإنسانية تتفاعل في بنية الوجود الإنساني لتعمق الوسائل الكفيلة بالتغلب على هذه الكوارث ، وخلق واقع كوني خالي من وجودها أو توفير الإمكانية لتقليص مخاطرها على التوجهات الإنسانية ، وإزالة مخلفاتها السلبية وتعميق روح المواجهة في بنية النفس الإنسانية لمنع التزايد المدمر لبقائها كونها قائمة على نفس الوتيرة من التخريب .
فالتساؤلات المنتشرة على المستوى العالمي حول بداية الحياة الإنسانية ونهايتها تعمق واقع الخوف في العقل الإنساني على كامل وجوده ويتعمق معه واقع أخر حول إمكانية خلق أساليب علمية وتكنولوجيا طبية قادرة على إطالة العمر الزمني للبشر .
فقد توصل البشر إلى قناعة راسخة بأن العلم هو الناظم والقاسم المشترك لكافة البنى الإنسانية بمختلف أشكال تواجدها وتنوع ثقافاتها ، فالمظاهر البشرية الساعية لتحقيق الشرط الإنساني العالمي تتحول إلى توجهات منظمة ضمن آفاق متنوعة ومختلفة التسميات غير أنها تميل نحو واقع إنساني موحد في وجوده الثقافي وكل حركات السلام ومنظمات أطباء بلا حدود ومحامين بلا حدود وفعاليات متنوعة أصبحت تنشط بلا حدود لتعمق الوجود الكوني وتعطية الأبعاد الكاملة لحرية الاندماج والمهام المطروحة أمام عولمة العالم .



المرجع المعتمد :
رونالد روبرتسون : العولمة النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية – ترجمة أحمد محمود ونور أمين – مراجعة وتقديم محمد حافظ دياب – صادر عن المجلس الأعلى للثقافة – عام 1998 م .