الأحد، 26 أكتوبر 2008

عطاء الفكر التفاعلي














إن عملية دراسة وانتقاء الفكر التاريخي النوعي الناشئ من خلال تعاقب النشاط الإنساني ، والمنعكس بشكل فكري على هذا النشاط ، تمثّل عبر التاريخ بنوعين من الإنتاج الفكري، أحدهما هو الإنتاج الروحي الموجه لتقويم البناء الداخلي للإنسان بجميع قيمه ومعلوماته المكرسة والمنبثقة من الأديان السماوية ، الموجهة لإعطاء الإنسان مجموعة من القيم والقيود والإرشادات النوعية التي تقود الإنسان نحو الكمال المطلق ، ليس في واقع الحياة فحسب، وإنما في واقع الموت أيضاً،أدخلت مفاهيمها وتعاليمها إلى أذهان الناس ومواقفهم وأعمالهم ، عبر التوجيه المركّز للعقاب والحساب والتشجيع والمكافأة ، ونحو البعد المستقبلي للحياة مما أدى إلى انقسام الناس إلى تيارين متعارضين .
التيار الأول: أخذ هذه المفاهيم والقيم من أجل الوصول إلى مآرب ذاتية خاصة ، فقلب المقاصد والقيم المكرسة في الأديان وأعطاها بعداً شكلياً أستطاع أن يتظاهر به مع المجتمع ، مظهراً أن ذلك هو المقصود والمفروض، وهو التمثّل لهذه القيم متجاهلاً وبقناعاته الداخلية جميع عمليات الترغيب والترهيب التي وعدت بها الأديان معتنقيها ، مما أعطى المفاهيم شكلاً هامشياً ، لا يهمهم من الأشياء إلا صورها ، ومن الفكر غير أداة لتكريس الفوقية والعدوانية ، وكيفية إخضاع الناس ، مما خلق وضعاً مريضاً ميالاً لتطبيق مفاهيم الخبث وأساليب التلاعب على الآخرين وإشراكهم في عملية التلاعب هذه ، فظهر الإنسان بمظهر المتآمر على جميع القيم الفكرية والروحية والخروج بتجارب تاريخية أعطت اللاحقين أبشع صور الحقد على هذا النوع من السلوك بجميع قيمه.
التيار الثاني: أخذ من الإنتاج الروحي لهذه الأديان جوهره وإشراقاته الحقيقية، لكنه بالمقابل كان مهزوماً في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فتركزت هذه المعلومات عنده كنوع من القناعة الداخلية ، وأداة لتطهير النفس الفردية من الداخل ، مما غيّب عمليات ممارسة هذه القيم الجوهرية في الواقع الحياتي ، وظلت قناعات روحية داخلية في النفس الإنسانية ، مما جعلها تفقد مصداقيتها عبر التاريخ ، وتطورت لتأخذ شكلاً صوفياً متعصباً، مما أدّى إلى تشويه معالمها الحقيقية ووضعها في صورة الانعزال والتحجر، ففقدت مصداقيتها وأهملت ولم يبق منها إلا شكلانية بسيطة لا تنطوي على أي تأثير اجتماعي فعّال. أما الحقيقة النوعية لكيفية استشراق الفكر الروحي ، تتمثل بسحب جميع قيمه الفعّالة منه وإعطائها البعد الحقيقي النوعي في الحياة ، وتمثلها في الحقيقة الفاعلة للحياة الاجتماعية ، وإعطائها الصفة الحقوقية في التعامل الاجتماعي ، مع إضافة الفكر النوعي النموذجي للواقع إلى الفكر الروحي ليتم التفاعل مع الواقع المعاصر ، مع إسقاط كافة المفاهيم المدونة في الفكر الديني المرتكزة على عملية التصوير الإبداعي للحساب والعقاب ، وجميع طرائق الترغيب في الحياة وما بعد الحياة ، كي تصبح المفاهيم الدينية ذات مدلولية عملية ، ليس في واقع التعذيب والسعادة الدائمة فحسب، وإنما في واقع الحياة المعاصرة والنامية وفق صيرورة اجتماعية متطورة تسعى عبر مسيرها العام للوصول إلى النضج الحياتي والأخلاقي بشكل متكامل على كافة الأصعدة الإنسانية .
كما أن إسقاط كافة الأفكار من الأديان السماوية القائمة على الطرائق التصويرية والوصفية تؤدي إلى زيادة فعالية الفكر الديني ، وتعطيه واقعاً تنموياَ في جميع الأفكار الباقية، ذات الفكر النوعي الحياتي والأفكار الحقوقية ذات البعد التكافئي العام.
أي اكتساب نمطية نابعة من عطاءات الفكر الديني ذات بعد عقلاني في الفكر ، وعقلاني في الحياة الاجتماعية والإنسانية ، وذلك بعد الانفكاك الداخلي من أية تبعية وارتهان لجميع القوى المحركة للأديان ، وبالتالي إعطاء الإنسان الحق الأمثل في كيفية استخدام الفكر وترشيده في ما يحقق تطوره النوعي على جميع الأسس التاريخية الباقية النابعة من أمال تشكل قفزات نوعية إنسانية وبالتالي تطوير جميع الملكات الإنسانية،فيما يحقق قفزات نوعية أشمل وأعمق قادرة للوصول إلى صيغة حياتية نوعية واحدة وشاملة لجميع أبناء البشرية ، تؤدي لإخراجهم من دائرة الصيغ التناحرية ذات التأسيس المنحرف والمدمر لقسم كبير من سكان الأرض، بدون أي حق، ولا ذنب سوى كونهم بشراً لم يقدروا على تنفيذ أطماع غيرهم، وعدم مقدرتهم تأمين الاستمتاع الأعظم لأهواء الانحراف الإنساني . يؤثر الفكر المادي التاريخي على جميع العمليات الفكرية والحياتية القائمة في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، باعتماده القائم على دراسة الصيغة التناحرية القائمة بين فئات وطبقات متصارعة تتناوب من خلال الصراع المستمر إلى انتصار أو التغير من طبقة إلى أخرى أو تظهر طبقة جديدة قائدة وقائمة في المجتمع حسب الظروف المواتية والمؤهلة لإعطاء الأقوى فرصة الاستمرار ، والبقاء على رأس القيادة فترة من الزمن.
ومبدأ الحتمية التاريخية القائلة بإمكانية الانتصار الدائم للقوى الصاعدة في المجتمع المتشكل والمتعاقب بشكل مستمر. ومن الدراسة المستفيضة للواقع الاقتصادي القائم بفعل قانون اقتصادي موضوعي ، يأخذ مجراه في الواقع السياسي خارج إرادة الناس وأهوائهم ، وكيفية تحول رؤوس الأموال وفق العملية الإنتاجية للمجتمع ، وتكدسها بأيدي أقلية قليلة من جرّاء استغلال قوة العمل الزائدة وتحقيق الربح على أوسع نطاق، وبالتالي تغذية الحقد الطبقي القائم على زيادة وتطور الوعي الاجتماعي وإفهام الشعب بأن واقع السلب ودوران الأموال وتكدسها ، ستصبح أداة ضغط وقهر اجتماعي وسياسي ، بل وتتعدى ذلك إلى واقع نفسية الإنسان وفكره، مما يزيده قهراً وحداً على مستغليه، كما أن عملية التحول الاجتماعي القائم على تغيير كافة الأطر الاجتماعية والمؤسسات القائمة في المجتمع القديم ، وبرمجة الناس في صيغة تنموية معينة ، تؤدي إلى نقل المجتمع من صيغة اجتماعية إلى صيغة اجتماعي أخرى ، عبر صيغ مدروسة ومبرمجة تؤدي إلى تركيز اجتماعية المجتمع ورسم معالمه المستقبلية ، وصيانته والمحافظة عليه وبالتالي تحقيق نمطية اجتماعية ذات بعد إنتاجي يؤدي في نهاية المطاف إلى وفرة في الخيرات المادية . وبالتالي تحقيق العادة المعيشة ، ولاشك في أن عملية اكتشاف وبرمجة الفكر المادي وإعطائه الصفة المنهجية ، هي وليدة تطورات هائلة في تاريخ البشرية ، ونعتبر ذلك قفزة نوعية قامت بها الإنسانية من أجل صيانة ذاتها واستمرارية هذه الذات تاريخياً وتخليص الإنسان الكثير من المشاكل والمشاغل الحياتية ، كانت تقف حاجزاً أمام التوعية الاجتماعية والاقتصادية ، وبالتالي شكلت حافزاً للعمل الدؤوب في وسط جماهيري هادف إلى تغيير النمطية التشكيلية للبناء الاجتماعي، بجميع سماته الفكرية والنفسية والمعيشية ، وتصعيد المواجهة الكبيرة للتخلف وقصر النظر القائمة والمعيقة لتحقيق ثورة في البناء الإنساني العام .
ولكن لماذا لم يستطع الفكر المادي تعميق وجوده ليصبح قضية شاملة بلا حدود ؟؟ ! ..
إن ذلك يعود لتناول الإنسان لا بتغييره الشامل فحسب، وإنما بتوجيه التفكير وفق منظور سياسي اقتصادي إيديولوجي ، يؤدي بالضرورة إلى خلق الصراع بجميع مستوياته، وتصعيد هذا الصراع على الدوام ليصبح قضية في غاية المواجهة الحقيقية بين التيارات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، وبالتالي تصعيد واقع المواجهة وفتح إمكانية ظهور مواجهة مضادة، تؤدي إلى تعزيز الفكر المناقض وإعطائه فرصة أكبر لصيانة ذاته وتعزيز هذه الصيانة بشكل دائم والتمسك الأعظم بهذا الفكر . كما أن التركيز على التغيير وللإبادة الشاملة للفكر المجتمعي القديم ، القائم على إنتاج الإنسان التاريخي نفسه يجعل واقع الصراع حاداً، وتصبح مسألة مصير الفكر قضية ذات بعد مستقبلي فتعمق المواجهة، ويصبح التمسك بمنهجية الأفكار واقعاً تعصبياً ، مما يجعل إمكانية نقل كل طرف من مواقعه أمراً مستحيلاً ، ويصبح هذا الصراع حاجزاً أمام نمو الملكات الإبداعية للعقل البشري ويقف الإنسان خائفاً وحائراً على الدوام.
فإذا كان الفكر هو أداة التشغيل والتحريك للإنسان، وهو القوة الموجهة لأداء الأعمال المنوطة بالإنسان، وهو الأداة الأساسية لانتقاء الأعمال والموازنة الدقيقة بين قينها وفوائدها والحاجة إليها ،كما أنه المنظم الدقيق للعلاقات العملية والاجتماعية في إطارها العام ضمن الوسط المعاش . بالإضافة إلى أن الفكر هو الموجه الأمثل للشخصية ، طبقاً لما يحتويه من معرفة ناشئة عن عطائه الدائم عبر التاريخ تجعله أداة للتهذيب والتقويم الأمثل للشخصية . وبمقدار إنسانية الفكر تتعمق المعرفة وتتخذ شك العطاء الدائم في واقع العمل الإنساني وعظيم قيمته الاجتماعية، وعندما يكون مجال العمل هو الإنسان بجميع قيمه الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ، يصبح عندها الفكر مسؤولاً عظيماً ويتخذ بعداً مطلقاً وعطاءً متجدداً ، وتتخذ الشخصية بعدها اللامحدود في واقعها الحياتي.
ولكي يتسم الفكر الشخصي بالإنسانية ، عليه أن يتخذ مواد عمله من الواقع على الصعيدين العملي والنظري ، المادي والمثالي ، كما أن أخذ مواد الفكر من التراث الإنساني بكل جوانبه ، والتركيز على الإشراقات النوعية لعطاءات الفكر الإنساني ، هو ما يجعل قيم الحياة أمتن وأقوم ، كما أنه يؤدي إلى تحصين العلاقات الاجتماعية ، ويعطيها البعد التوافقي والتطابق الموضوعين بما يجعلها علاقات إنسانية في صيغة كمالية رائعة ، شريطة إهمال وتجاوز أي فكرة تعصبية تعيق انسجام الإنسان مع ذاته وتقاربه مع الآخرين، فالاتفاق الجماعي الأمثل على سحب الفكر والعطاء الإنساني القائم والمنسجم مع الروح الحضارية المتنامية والمبدعة تجعل الإنسان كائناً قائماً ومتواصلاً وعطاءً متجدداً بعيداً عن أي تشويه أو تزوير، وبعيداً عن أي عمل يعيق التفاعل والتعامل الاجتماعي ضمن دائرة الحياة الإنسانية العامة، وعندها يصبح الإنسان هو الأداء الأمثل والأجدر لإعطاء العلاقات والقيم الروحية انفتاحاً وعقلانية.
إن ما يجعل الإنسان حائراً هو اللاحريّة في الأخذ واللاحريّة في العطاء، وهذا يخلق واقعاً توافقياً رتيباً في شكله منحرف في مضمونه، يؤدي إلى تعطيل ظاهرة الوضوح والإبداع. فعملية تمثل الفكر التاريخي والأخذ به غالباً ما يكون على شكل تبعية وارتهان ومسايرة أو تسليم، مما يجعل الفكر المأخوذ جامداً لا حياة فيه، وكأنه فكر مفروض بتعصب يؤدي إلى تبعية ذاتية ونفسية تشوه عملية الانتماء، وتحرف الفكر عن موضوعه الصحيح، وغالباً ما كان يستخدم الرعب النفسي والضغط المعنوي وكافة أنواع التخويف والقهر والعقاب، لترويج الأفكار، وإعطائها بعداً اجتماعياً بقصد تجميع الناس في كيان اجتماعي موحد،لكنّ النتيجة كانت عكسية على الدوام، فبدل أن يتوحد الناس تفرقوا إلى زمر وشيع ومذاهب وأحزاب، وكثرت عمليات التأويل والتفسير لتتخذ أبعاداً درامية في غاية التعقيد وأصبح الإنسان مهدداً في اعتقاده، واتخذت عمليات الإخضاع بعداً جسدياً مدمراً، وأصبح الأقوى هو القادر دائماً على نشر وفرض أفكاره ومفاهيمه الحياتية على الآخرين، أدى بالمقابل إلى نشوء أفكار داخلية مغلقة كتعبير رفضي مطلق عن هذه التعاسات الإنسانية وقيمها الفكرية المفروضة بالقوة.

حسين عجمية
Ansaroz56@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: